الفنان الراحل محمد ابو الحسن

السائق ونحن في الطريق نظر لي مبتسماً وسألني: هل تذكر هذه المسرحية الجميلة. قلت: نعم.. هي من تأليف الكاتب المبدع لينين الرملي، وعرضت للمرة الأولى على خشبة المسرح عام 1980 وقام بإخراجهاـ بجانب بطولتهاـ الراحل فؤاد المهندس. هز رأسه متمتماً بكلمات مسموعة، قائلاً: “كان زمناً جميلاً بنجومه وفنه”. وأثناء وقوفنا في إشارة مرور شارع عباس العقاد عاد يسألني بدهشة عن سر اختفاء الفنان محمد أبوالحسن وعدم ظهوره في أي أعمال مسرحية أو تليفزيونية منذ سنوات
؟ قلت: دقائق وسنكون معه ونعرف السبب! في النهاية، لاحظ غضبي من كثرة أسئلته، فقام بإشعال سيجارة يتيمة كانت في علبة سجائره، وبدأ من خلالها ينفث دخانها المتطاير في غضب مكتوم.
فور وصولنا هاتفت الفنان محمد أبوالحسن، وفريق العمل بجواري يستعد بكاميراته لتسجيل تقريرٍ تليفزيونيٍ معه. رد معتذراً عن أن شقته لن تستطيع استقبال فريق العمل للتصوير؛ لأسباب شرحها لي ولا داعي لذكرها. تفهمت وجهة نظره، وطلبت من فريق العمل البحث عن مكان آخر للتصوير. واتفقنا على أن يكون ذلك في كافيه بشارع عباس العقاد. بعد دقائق ونحن في انتظاره بالشارع، لمحته يخرج من وراء باب العمارة بهدوء. جسده هزيل. خطواته بطيئة. ونظره ضعيف بعض الشيء. اندفع إليه السائق مهرولاً وهو يضحك، قائلاً: “كنتِ سبتيه يمسكها يا فوزية”! ثم احتضنه، وهو يقول بكلمات صادقة: “وحشتنا يا فنان”. فرد مبتسماً: “كويس إن فيه حد لسه فاكرني..راح زماننا وزمن فوزية!”.
سلم على باقي فريق العمل، واستقل معنا السيارة، وبعد 30 دقيقة تقريباً وصلنا إلى الكافيه. رواد المكان استقبلوه بسعادة وحفاوة شديدة أسعدته كثيراً. بدأ يسلم على كل من في المكان،
فيداعب هذا. ويضحك مع هذا. ويرد على أسئلة هذا، إلى أن توقف أمام ترابيزة تجلس عليها سيدة تبدو ملامحها حزينة، وأمامها فتاة توشك على البكاء. استغل هو الفاصل الزمني الذي يستعد فيه طاقم العمل لتجهيز”اللوكيشن” للتصوير، واقترب منهما وجلس بجوارهما، ليعرف سر الحزن الذي يسيطر عليهما..( ولهما معه قصة أخري ربما أكتبها فيما بعد)
•••
سألته عن غيابه عن الساحة الفنية؟ قال: دعني اقول لك ما رفضت قوله أمام الكاميرا.. فأنا كنت فناناً أحب الفن. أما اليوم فأنا فنان أتسول الفن، بعدما حولوه إلى تجارة تتحكم فيها عصابة؛ هذه العصابة تسيطر على مفاتيح الإنتاج الفني كله. هل تتصور أن يصاب قلبي بالمرض ويحتاج لتغيير عدة شرايين؛ فلا أجد لديّ المال الذي يتيح لي إجراء العملية، ولولا تدخل الزميلة العزيزة الفنانة “سهير رمزي” وقتها وتحملها نفقاتها، لكنت رحلت عن الدنيا وأرحت واسترحت؟ لقد أعطيت حياتي كلها للفن، خاصةً المسرح بعدما اكتشفني وقدمنى للجمهور الفنان الجميل جورج سيدهم وقدمت عشرات الأعمال المسرحية والدرامية
والإذاعية منذ الستينات. واليوم تمر السنوات دون أن يعرض عليَّ أي دور في أي عمل، وكأنني رحلت عن الدنيا. أحياناً يرسلون لي حلقة أو حلقتين، لا يتجاوز أجري في الحلقة ستة آلاف جنيه. أناـ وغيري- أجرنا ملاليم. وهم- وغيرهم- أجورهم بالملايين. ثم سكت قليلاً، وقال بتأثر واضح: لقد ساعدت الكثيرين من مخرجين وفنانين- هم كبار الآن ولهم أسماؤهم المعروفة في الوسط- في بداية عملهم، عندما كنت أعمل مخرجاً وممثلاً في بداية ظهور التليفزيون، واليوم لا يردون على هاتفي؛ إذا ما اتصلت بهم، ويتهربون مني!
ثم قال ذلك بمرارة واضحة في نبرات صوته، وحزن معلق على أهداب حروف الكلمات التى تخرج من حلقه. حاولت أن أهرب من حالة الكآبة التى سيطرت على أجواء المكان. لذلك قلت له: دعنا نترك الحاضر ونعُود للماضى.. حدثنا عن مسرحية “سك على بناتك” التى كشفت عن قدراتك التمثيلية؟ رد: بصراحة..أنا فنان سيئ الحظ.. أقول ذلك وأنا مؤمن بأن الشهرة والنجومية في الحياة نصيب. وأنا لم يكن نصيبي في الشهرة والنجومية جيداً؛ فمن سوء حظي أننى اعتذرت عن مسرحية “المتزوجون” أمام الفنان سمير غانم والفنان جورج سيدهم.
•••
وبالنسبة لمسرحية “سك على بناتك” فبرغم نجاحها على خشبة المسرح؛ إلا أنها ظلت حبيسة في الأدراج، ولم تعرض في التليفزيون لمدة تزيد على عشر سنوات. ولو عرضت بعد تصويرها مباشرة، لكانت أشياء كثيرة تغيرت في مشواري كله. ثم ابتسم وقال: دور “حنفي” في المسرحية كان يلعبه في البداية الفنان أسامة عباس، وبعد العرض الأول اعتذر، ولعبت أنا الدور. أما دور “فوزية” فكان من نصيب الفنانة عائشة الكيلانى، لكنها اعتذرت أيضاً بعد العرض الأول، لتقوم به الراحلة سناء
يونس! قلت له في مسرحية “سك على بناتك” أردتم أن تقولوا إن الفضيلة لا تأتي بالمنع! أليس كذلك؟ رد: نعم. قلت: فأيهما أفضل.. سياسة الانغلاق أم سياسة الانفتاح؟ فرد وهو يبتسم: الأجمل من هذا وذاك هو التربية السليمة التي تعتمد- من وجهة نظري- على سياسة الاعتدال في كل شيء. ثم استأذن في الانصراف، فخرجت معه للشارع أودعه. وأشرت بيدي لتاكسي فوقف بجوارنا. وذهبت أدفع له الأجرة. فنظر لى السائق وهو يقول: “عيب يا أستاذ.. دانا أوصله على رأسي لحد باب بيته”..
ثم قال وهو يضحك بعدما جلس أبو الحسن بجواره: “مش كنت تسيبيه يمسكها يا فوزية”! قالها وهما يضحكان بصوت مسموع؛ لحظة انطلاق التاكسي من أمامي، مسرعاً حتى غاب عن بصري وسط زحام وضجيج الشارع.
الصحفى خيري حسن •• الأحداث حقيقية. والسيناريو من خيال الكاتب. •• المصدر:
مقال للكاتب نشر قبل سنوات في موقع مصراوي.( دعوة الكتابة كانت من الزميل الكاتب الصحفي علاء الغطريفي) •• الصور:الفنان الراحل محمد أبو الحسن. رحل عن الحياة يوم 8 يونيو 2014 (76 سنة)